فصل: باب الرِّفْقِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِثْمِ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ يُوبِقْهُنَّ يُهْلِكْهُنَّ مَوْبِقاً مَهْلِكاً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه‏)‏ البوائق بالموحدة والقاف جمع بائقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافي بغتة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يوبقهن يهلكهن، موبقا مهلكا‏)‏ هما أثران قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏أو يوبقهن بما كسبوا‏)‏ قال‏:‏ يهلكهن‏.‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وجعلنا بينهم موبقا‏)‏ أي متوعدا‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وجعلنا بينهم موبقا‏)‏ أي مهلكا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ تَابَعَهُ شَبَابَةُ وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعيد‏)‏ هو المقبري، ووقع منسوبا غير مسمى عند الإسماعيلي عن محمد بن يحيى بن سليمان عن عاصم بن علي شيخ البخاري فيه، وأخرجه أبو نعيم من طريق عمر بن حفص ومن طريق إبراهيم الحربي كلاهما عن عاصم بن علي مسمى منسوبا قال‏:‏ ‏"‏ عن سعيد المقبري‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي شريح‏)‏ هو الخزاعي، ووقع كذلك عند أبي نعيم واسمه على المشهور خويلد وقيل عمرو وقيل‏:‏ هانئ وقيل‏:‏ كعب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والله لا يؤمن‏)‏ وقع تكريرها ثلاثا صريحا، ووقع عند أحمد ‏"‏ والله لا يؤمن ثلاثا ‏"‏ وكأنه اختصار من الراوي، ولأبي يعلى من حديث أنس ‏"‏ ما هو بمؤمن ‏"‏ وللطبراني من حديث كعب بن مالك ‏"‏ لا يدخل الجنة ‏"‏ ولأحمد نحوه عن أنس بسند صحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قيل‏:‏ يا رسول الله ومن‏)‏ ‏؟‏ هذه الواو يحتمل أن تكون زائدة أو استئنافية أو عاطفة على شيء مقدر أي عرفنا ما المراد مثلا ومن المحدث عنه، ووقع لأحمد من حديث ابن مسعود أنه السائل عن ذلك، وذكره المنذري في ترغيبه بلفظ ‏"‏ قالوا يا رسول الله لقد خاب وخسر من هو ‏"‏ وعزاه للبخاري وحده، وما رأيته فيه بهذه الزيادة ولا ذكرها الحميدي في الجمع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ الذي لا يأمن جاره بوائقه‏)‏ في حديث أنس ‏"‏ من لم يأمن ‏"‏ وفي حديث كعب ‏"‏ من خاف ‏"‏ زاد أحمد والإسماعيلي ‏"‏ قالوا‏:‏ وما بوائقه‏؟‏ قال‏:‏ شره ‏"‏ وعند المنذري هذه الزيادة للبخاري ولم أرها فيه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ في المتن جناس بليغ وهو من جناس التحريف، وهو قوله‏:‏ ‏"‏ لا يؤمن ولا يأمن ‏"‏ فالأول من الإيمان والثاني من الأمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه شبابة وأسد بن موسى‏)‏ يعني عن ابن أبي ذئب في ذكر أبي شريح، فأما رواية شبابة وهو ابن سوار المدايني فأخرجها الإسماعيلي، وأما رواية أسد بن موسى وهو الأموي المعروف بأسد السنة فأخرجها الطبراني في ‏"‏ مكارم الأخلاق‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال حميد بن الأسود وعثمان بن عمر وأبو بكر بن عياش وشعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة‏)‏ يعني اختلف أصحاب ابن أبي ذئب عليه في صحابي هذا الحديث فالثلاثة الأول قالوا فيه عن أبي شريح، والأربعة قالوا عن أبي هريرة‏.‏

وقد نقل أبو معين الرازي عن أحمد أن من سمع من ابن أبي ذئب بالمدينة فإنه يقول عن أبي هريرة، ومن سمع منه ببغداد فإنه يقول عن أبي شريح قلت‏:‏ ومصداق ذلك أن ابن وهب وعبد العزيز الدراوردي وأبا عمرو العقدي وإسماعيل بن أبي أويس وابن أبي فديك ومعن بن عيسى إنما سمعوا من ابن أبي ذئب بالمدينة وقد قالوا كلهم فيه‏:‏ ‏"‏ عن أبي هريرة ‏"‏ وقد أخرجه الحاكم من رواية ابن وهب ومن رواية إسماعيل ومن رواية الدراوردي، وأخرجه الإسماعيلي من رواية معن والعقدي وابن أبي فديك وأما حميد بن الأسود وأبو بكر بن عياش اللذان علقه البخاري من طريقهما فهما كوفيان وسماعهما من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة لما حجا، وأما عثمان بن عمر فهو بصري وقد أخرج أحمد الحديث عنه كذلك، وأما رواية شعيب بن إسحاق فهو شامي وسماعه من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة، وقد أخرجه أحمد أيضا عن إسماعيل بن عمر فقال‏:‏ ‏"‏ عن أبي هريرة ‏"‏ وإسماعيل واسطي‏.‏

وممن سمعه ببغداد من ابن أبي ذئب يزيد بن هارون وأبو داود الطيالسي وحجاج بن محمد وروح بن عبادة وآدم بن أبي إياس وقد قالوا كلهم ‏"‏ عن أبي شريح ‏"‏ وهو في مسند الطيالسي كذلك، وعند الإسماعيلي من رواية يزيد، وعند الطبراني من رواية آدم، وعند أحمد من رواية حجاج وروح بن عبادة، ويزيد واسطي سكن بغداد، وأبو داود وروح بصريان وحجاج بن محمد مصيصي، وآدم عسقلاني، وكانوا كلهم يقدمون بغداد ويطلبون بها الحديث، وإذا تقرر ذلك فالأكثر قالوا فيه‏:‏ ‏"‏ عن أبي هريرة ‏"‏ فكان ينبغي ترجيحهم‏.‏

ويؤيده أن الراوي إذا حدث في بلده كان أتقن لما يحدثه به في حال سفره، ولكن عارض ذلك أن سعيدا المقبري مشهور بالرواية عن أبي هريرة فمن قال عنه‏:‏ ‏"‏ عن أبي هريرة ‏"‏ سلك الجادة، فكانت مع من قال عنه‏:‏ ‏"‏ عن أبي شريح ‏"‏ زيادة علم ليست عند الآخرين، وأيضا فقد وجد معنى الحديث من رواية الليث عن سعيد المقبري عن أبي شريح كما سيأتي بعد باب، فكانت فيه تقوية لمن رآه عن ابن أبي ذئب فقال فيه ‏"‏ عن أبي شريح ‏"‏ ومع ذلك فصنيع البخاري يقتضي تصحيح الوجهين، وإن كانت الرواية عند أبي شريح أصح‏.‏

وقد أخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة ذاهلا عن الذي أورده البخاري بل وعن تخريج مسلم له من وجه آخر عن أبي هريرة فقال بعد تخريجه‏:‏ صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ وإنما أخرجاه من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ‏"‏ وتعقبه شيخنا في أماليه بأنهما لم يخرجا طريق أبي الزناد ولا واحد منهما‏.‏

وإنما أخرج مسلم طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة باللفظ الذي ذكره الحاكم‏.‏

قلت‏:‏ وعلى الحاكم تعقب آخر وهو أن مثل هذا لا يستدرك لقرب اللفظين في المعنى، قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان‏.‏

وقال النووي عن نفي الإيمان في مثل هذا جوابان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه في حق المستحل، والثاني‏:‏ أن معناه ليس مؤمنا كاملا ا هـ‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يجازي مجازاة المؤمن بدخول الجنة من أول وهلة مثلا، أو أن هذا خرج مخرج الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد، والله أعلم‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه وكف أسباب الضرر عنه فينبغي له أن يراعي حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران ا هـ ملخصا‏.‏

*3*باب لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا تحقرن جارة لجارتها‏)‏ كذا حذف المفعول اكتفاء بشهرة الحديث 0

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ

الشرح‏:‏

أورد فيه حديث أبي هريرة في ذلك، واتفق أن هذا الحديث ورد من طريق سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة والحديث قبله من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة ليس بينهما واسطة، وكل من الطريقين صحيح لأن سعيدا أدرك أبا هريرة وسمع منه أحاديث وسمع من أبيه عن أبي هريرة أشياء كان يحدث بها تارة عن أبي هريرة بلا واسطة، وقد ذكر البخاري بعضها وبين الاختلاف على سعيد فيها، وهي محمولة على أنه سمعها من أبي هريرة واستثبت أباه فيها، فكان يحدث بها تارة عن أبيه عن أبي هريرة وتارة عنه بلا واسطة، ولم يكن مدلسا، وإلا لحدث بالجميع عن أبي هريرة والله أعلم‏.‏

وبقية المتن ‏"‏ ولو فرسن شاة ‏"‏ بكسر الفاء وسكون الراء وكسر المهملة ثم نون‏:‏ حافر الشاة‏.‏

وقد تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ كتاب الهبة ‏"‏ والكلام على إعراب يا نساء المسلمات، وحاصله أن فيه اختصارا‏.‏

لأن المخاطبين يعرفون المراد منه، أي لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئا ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به في الغالب، ويحتمل أن يكون من باب النهي عن الشيء أمر بضده، وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال‏:‏ لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرع انفعالا في كل منهما‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ يحتمل أن يكون النهي للمعطية، ويحتمل أن يكون للمهدي إليها‏.‏

قلت‏:‏ ولا يتم حمله على المهدي إليها إلا بجعل اللام في قوله لجارتها بمعنى من ولا يمتنع حمله على المعنيين‏.‏

*3*باب مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره‏)‏ ذكر فيه حديثا لأبي هريرة في ذلك وآخر لأبي شريح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أبو الأحوص‏)‏ هو سلام بالتشديد ابن سليم، وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم، وأبو صالح هو ذكوان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر‏)‏ المراد بقوله يؤمن الإيمان الكامل، وخصه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ والمعاد، أي من آمن بالله الذي خلقه وآمن بأنه سيجازيه بعمله فليفعل الخصال المذكورات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا يؤذ جاره‏)‏ في حديث أبي شريح ‏"‏ فليكرم جاره ‏"‏ وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ ‏"‏ فليحسن إلى جاره ‏"‏ وقد ورد تفسير الإكرام والإحسان للجار وترك أذاه في عدة أحاديث أخرجها الطبراني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأبو الشيخ في ‏"‏ كتاب التوبيخ ‏"‏ من حديث معاذ بن جبل ‏"‏ قالوا يا رسول الله ما حق الجار على الجار‏؟‏ قال‏:‏ إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنيته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ‏"‏ وألفاظهم متقاربة، والسياق أكثره لعمرو بن شعيب‏.‏

وفي حديث بهز بن حكيم ‏"‏ وإن أعوز سترته ‏"‏ وأسانيدهم واهية لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن الحديث أصلا‏.‏

ثم الأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مستحبا، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه‏)‏ زاد في حديث أبي شريح ‏"‏ جائزته‏.‏

قال‏:‏ وما جائزته يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام ‏"‏ الحديث وسيأتي شرحه بعد نيف وخمسين بابا في ‏"‏ باب إكرام الضيف ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت‏)‏ بضم الميم ويجوز كسرها، وهذا من جوامع الكلم لأن القول كله إما خير وإما شر وإما آيل إلى أحدهما؛ فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت‏.‏

وقد أخرج الطبراني والبيهقي في ‏"‏ الزهد ‏"‏ من حديث أبي أمامة نحو حديث الباب بلفظ ‏"‏ فليقل خيرا ليغنم، أو ليسكت عن شر ليسلم ‏"‏ واشتمل حديث الباب من الطريقين على أمور ثلاثة تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية، أما الأولان فمن الفعلية، وأولهما يرجع إلى الأمر بالتخلي عن الرذيلة والثاني يرجع إلى الأمر بالتحلي بالفضيلة، وحاصله من كان حامل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله قولا بالخير وسكوتا عن الشر وفعلا لما ينفع أو تركا لما يضر، وفي معنى الأمر بالصمت عدة أحاديث‏:‏ منها حديث أبي موسى وعبد الله بن عمرو بن العاص ‏"‏ المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ‏"‏ وقد تقدما في كتاب الإيمان، وللطبراني عن ابن مسعود ‏"‏ قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل ‏"‏ فذكر فيها ‏"‏ أن يسلم المسلمون من لسانك ‏"‏ ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث البراء رفعه في ذكر أنواع من البر ‏"‏ قال فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير ‏"‏ وللترمذي من حديث ابن عمر ‏"‏ من صمت نجا ‏"‏ وله من حديثه ‏"‏ كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب ‏"‏ وله من حديث سفيان الثقفي ‏"‏ قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي‏؟‏ قال‏:‏ هذا‏.‏

وأشار إلى لسانه ‏"‏ وللطبراني مثله من حديث الحارث بن هشام وفي حديث معاذ عند أحمد والترمذي والنسائي ‏"‏ أخبرني بعمل يدخلني الجنة ‏"‏ فذكر الوصية بطولها وفي آخرها ‏"‏ ألا أخبرك بملاك ذلك كله‏؟‏ كف عليك هذا‏.‏

وأشار إلى لسانه ‏"‏ الحديث‏.‏

وللترمذي من حديث عقبة بن عامر ‏"‏ قلت يا رسول الله ما النجاة‏؟‏ قال‏:‏ أمسك عليك لسانك‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ قَالَ وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا يؤذ جاره‏)‏ في حديث أبي شريح ‏"‏ فليكرم جاره ‏"‏ وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ ‏"‏ فليحسن إلى جاره ‏"‏ وقد ورد تفسير الإكرام والإحسان للجار وترك أذاه في عدة أحاديث أخرجها الطبراني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأبو الشيخ في ‏"‏ كتاب التوبيخ ‏"‏ من حديث معاذ بن جبل ‏"‏ قالوا يا رسول الله ما حق الجار على الجار‏؟‏ قال‏:‏ إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنيته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ‏"‏ وألفاظهم متقاربة، والسياق أكثره لعمرو بن شعيب‏.‏

وفي حديث بهز بن حكيم ‏"‏ وإن أعوز سترته ‏"‏ وأسانيدهم واهية لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن الحديث أصلا‏.‏

ثم الأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مستحبا، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه‏)‏ زاد في حديث أبي شريح ‏"‏ جائزته‏.‏

قال‏:‏ وما جائزته يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام ‏"‏ الحديث وسيأتي شرحه بعد نيف وخمسين بابا في ‏"‏ باب إكرام الضيف ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب حَقِّ الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الْأَبْوَابِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حق الجوار في قرب الأبواب‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة ‏"‏ قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي‏؟‏ قال‏:‏ إلى أقربهما منك بابا ‏"‏ وقد تقدم الكلام على سنده مستوفي في كتاب الشفعة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عِمْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَاباً

الشرح‏:‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ أقربهما ‏"‏ أي أشدهما قربا‏.‏

قيل‏:‏ الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها فيتشوف لها بخلاف الأبعد وأن الأقرب أسرع إجارة لما يقع لجاره من المهمات ولا سيما في أوقات الغفلة‏.‏

وقال ابن أبي جمرة‏:‏ الإهداء إلى الأقرب مندوب، لأن الهدية في الأصل ليست واجبة فلا يكون الترتيب فيها واجبا‏.‏

ويؤخذ من الحديث أن الأخذ في العمل بما هو أعلى أولى، وفيه تقديم العلم على العمل‏.‏

واختلف في حد الجوار‏:‏ فجاء عن علي رضي الله عنه ‏"‏ من سمع النداء فهو جار ‏"‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار ‏"‏ وعن عائشة ‏"‏ حد الجوار أربعون دارا من كل جانب ‏"‏ وعن الأوزاعي مثله‏.‏

وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ مثله عن الحسن، وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك مرفوعا ‏"‏ ألا إن أربعين دارا جار ‏"‏ وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب ‏"‏ أربعون دارا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه ‏"‏ وهذا يحتمل كالأولى، ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة‏.‏

*3*باب كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب كل معروف صدقة‏)‏ أورد فيه حديث جابر بهذا اللفظ، وقد أخرج مسلم من حديث حذيفة وقد أخرجه الدار قطني والحاكم من طريق عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن ابن المنكدر مثله وزاد في آخره ‏"‏ وما أنفق الرجل على أهله كتب له به صدقة، وما وقى به المرء عرضه فهو صدقة ‏"‏ وأخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق محمد بن المنكدر عن أبيه كالأول وزاد‏:‏ ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تلقي من دلوك في إناء أخيك، قال ابن بطال دل هذا الحديث على أن كل شيء يفعله المرء أو يقوله من الخير يكتب له به صدقة، وقد فسر ذلك في حديث أبي موسى المذكور في الباب بعد حديث جابر وزاد عليه ‏"‏ إن الإمساك عن الشر صدقة ‏"‏ وقال الراغب‏:‏ المعروف اسم كل فعل يعرف حسنه بالشرع والعقل معا، ويطلق على الاقتصاد لثبوت النهي عن السرف وقال ابن أبي جمرة‏:‏ يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع أنه من أعمال البر سواء جرت به العادة أم لا، قال‏:‏ والمراد بالصدقة الثواب، فإن قارنته النية أجر صاحبه جزما، وإلا ففيه احتمال‏.‏

قال‏:‏ وفي هذا الكلام إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر في الأمر المحسوس منه فلا تختص بأهل اليسار مثلا، بل كل واحد قادر على أن يفعلها في أكثر الأحوال بغير مشقة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ على كل مسلم صدقة ‏"‏ أي في مكارم الأخلاق، وليس ذلك بفرض إجماعا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وأصل الصدقة ما يخرجه المرء من ماله متطوعا به، وقد يطلق على الواجب لتحري صاحبه الصدق بفعله، ويقال لكل ما يحابي به المرء من حقه صدقة لأنه تصدق بذلك على نفسه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن لم يجد‏)‏ ‏؟‏ أي ما يتصدق به ‏(‏قال‏:‏ فيعمل بيديه‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ فيه التنبيه على العمل والتكسب، ليجد المرء ما ينفق على نفسه ويتصدق به ويغنيه على ذل السؤال‏.‏

وفيه الحث على فعل الخير مهما أمكن، وأن من قصد شيئا منها فتعسر فلينتقل إلى غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن لم يستطع، أو لم يفعل‏)‏ هو شك من الراوي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيعين ذا الحاجة الملهوف‏)‏ أي بالفعل أو بالقول أو بهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن لم يفعل‏)‏ ‏؟‏ أي عجزا أو كسلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليأمر بالخير، أو قال بالمعروف‏)‏ هو شك من الراوي أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن لم يفعل‏؟‏ قال‏:‏ فليمسك عن الشر الخ‏)‏ ‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ فيه حجة لمن جعل الترك عملا وكسبا للعبد خلافا لمن قال من المتكلمين إن الترك ليس بعمل، ونقل عن المهلب أنه مثل الحديث الآخر ‏"‏ من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي الكلام على شرح هذا الحديث في كتاب الرقاق ‏"‏ إن الحسنة إنما تكتب لمن هم بالسيئة فلم يعملها إذا قصد بتركها الله تعالى ‏"‏ وحينئذ فيرجع إلى العمل وهو فعل القلب، وقد مضى هذا مع شرح الحديث مستوفى في كتاب الزكاة، واستدل بظاهر الحديث الكعبي لقوله‏:‏ ليس في الشرع شيء يباح، بل إما أجر وإما وزر، فمن اشتغل بشيء عن المعصية فهو مأجور عليه‏.‏

قال ابن التين‏:‏ والجماعة على خلافه، وقد ألزموه أن يجعل الزاني مأجورا لأنه يشتغل به عن غيره من المعصية‏.‏

قلت‏:‏ ولا يرد عليه لأنه إنما أراد الاشتغال بغير المعصية‏.‏

نعم يمكن أن يرد عليه ما لو اشتغل بعمل صغيرة عن كبيرة كالقبلة والمعانقة عن الزنا، وقد لا يرد عليه أيضا لأن الذي يظهر أنه يريد الاشتغال بشيء مما لم يرد النص بتحريمه‏.‏

*3*باب طِيبِ الْكَلَامِ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب طيب الكلام‏)‏ أصل الطيب ما تستلذه الحواس، ويختلف باختلاف متعلقه، قال ابن بطال‏:‏ طيب الكلام من جليل عمل البر لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ادفع بالتي هي أحسن‏)‏ الآية، والدفع قد يكون بالقول كما يكون بالفعل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الكلمة الطيبة صدقة‏)‏ هو طرف من حديث أورده المصنف موصولا في كتاب الصلح وفي كتاب الجهاد، وقد تقدم الكلام عليه هناك في ‏"‏ باب من أخذ بالركاب ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ وجه كون الكلمة الطيبة صدقة أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يعطاه ويذهب ما في قلبه، وكذلك الكلام الطيب فاشتبها من هذه الحيثية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ قَالَ شُعْبَةُ أَمَّا مَرَّتَيْنِ فَلَا أَشُكُّ ثُمَّ قَالَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ

الشرح‏:‏

ذكر المصنف حديث عدي بن حاتم، وفيه ‏"‏ اتقوا النار ولو بشق تمرة؛ فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ أخبرني عمرو ‏"‏ كذا لهم وهو ابن مرة، وقد تقدم الحديث من طريق شعبة عنه في كتاب الزكاة مع شرحه، وخيثمة شيخ عمرو هو ابن عبد الرحمن، وتقدم الحديث مبسوطا في علامات النبوة‏.‏

*3*باب الرِّفْقِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الرفق في الأمر كله‏)‏ الرفق بكسر الراء وسكون الفاء بعدها قاف هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ قَالَتْ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلاً يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قصة اليهود لما قالوا السام عليكم، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان، وقوله‏:‏ ‏"‏ إن الله يحب الرفق في الأمر كله ‏"‏ في حديث عمره عن عائشة عند مسلم ‏"‏ إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ‏"‏ والمعنى أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده، وقيل‏:‏ المراد يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، والأول أوجه‏.‏

وله في حديث شريح بن هانئ عنها ‏"‏ إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شأنه ‏"‏ وفي حديث أبي الدرداء ‏"‏ من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ‏"‏ الحديث، وأخرجه الترمذي وصححه وابن خزيمة‏.‏

وفي حديث جرير عند مسلم ‏"‏ من يحرم الرفق يحرم الخير كله ‏"‏ وقوله فيه‏:‏ ‏"‏ عن صالح ‏"‏ هو ابن كيسان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيّاً بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامُوا إِلَيْهِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُزْرِمُوهُ ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

حديث أنس في قصة الذي بال في المسجد، وقد تقدم مشروحا في كتاب الطهارة، وقوله‏:‏ ‏"‏ لا تزرموه ‏"‏ بضم أوله وسكون الزاي وكسر الراء من الإزرام، أي لا تقطعوا عليه بوله، يقال‏:‏ زرم البول إذا انقطع وأزرمته قطعته، وكذلك يقال في الدمع‏.‏

*3*باب تَعَاوُنِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضاً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا‏)‏ بجر بعضهم على البدل ويجوز الضم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِساً إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ

الشرح‏:‏

حدثنا سفيان حدثني أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة ‏"‏ فذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا‏)‏ اللام قيه للجنس والمراد بعض المؤمنين للبعض، وقوله ‏"‏يشد بعضه بعضا ‏"‏ بيان لوجه التشبيه‏.‏

وقال الكرماني نصب بعضا بنزع الخافض‏.‏

وقال غيره بل هو مفعول يشد‏.‏

قلت‏:‏ ولكل وجه‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ والمعاونة في أمور الآخرة وكذا في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها وقد ثبت حديث أبي هريرة ‏"‏ والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم شبك بين أصابعه‏)‏ هو بيان لوجه التشبيه أيضا أي يشد بعضهم بعضا مثل هذا الشد، ويستفاد منه أن الذي يريد المبالغة في بيان أقواله يمثلها بحركاته ليكون أوقع في نفس السامع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا إذ جاء رجل يسأل أو طالب حاجة أقبل بوجهه فقال اشفعوا‏)‏ هكذا وقع في النسخ من رواية محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري، وفي تركيبه قلق، ولعله في الأصل‏:‏ كان إذا كان جالسا إذا جاء رجل الخ فحذف اختصارا أو سقط على الراوي لفظ ‏"‏ إذا كان ‏"‏ على أنني تتبعت ألفاظ الحديث من الطرق فلم أره في شيء منها بلفظ جالسا، وقد أخرجه أبو نعيم من رواية إسحاق بن زريق عن الفريابي بلفظ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طالب الحاجة أقبل علينا بوجهه ‏"‏ الحديث، وهذا السياق لا إشكال فيه، وأخرجه النسائي من طريق يحيى القطان عن سفيان مختصرا اقتصر على قوله‏:‏ ‏"‏ اشفعوا تؤجروا الخ ‏"‏ وأخرجه الإسماعيلي من رواية عمر بن علي المقدمي عن سفيان الثوري، لكنه جعله كله من قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أوتي فأسأل أو تطلب إلي الحاجة وأنتم عندي، فاشفعوا ‏"‏ الحديث‏.‏

وقد أخرجه المصنف في الباب الذي يليه من رواية أبي أسامة عن بريد ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة ‏"‏ ومن هذا الوجه أخرجه مسلم، وتقدم في الزكاة من رواية عبد الواحد بن زياد عن بريد بلفظ ‏"‏ كان إذا جاءه السائل أو طلب إليه الحاجة ‏"‏ وكذا أخرجه مسلم من رواية علي بن مسهر وحفص بن غياث كلاهما عن بريد بلفظ ‏"‏ كان إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال ‏"‏ فذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلتؤجروا‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية كريمة ‏"‏ تؤجروا ‏"‏ وقال القرطبي‏:‏ وقع في أصل مسلم ‏"‏ اشفعوا تؤجروا ‏"‏ بالجزم على جواب الأمر المضمن معنى الشرط وهو واضح وجاء بلفظ ‏"‏ فلتؤجروا ‏"‏ وينبغي أن تكون هذه اللام مكسورة لأنها لام كي وتكون الفاء زائدة كما زيدت في حديث ‏"‏ قوموا فلأصلي لكم ‏"‏ ويكون معنى الحديث اشفعوا كي تؤجروا، ويحتمل أن تكون لام الأمر والمأمور به التعرض للأجر بالشفاعة، فكأنه قال‏:‏ اشفعوا فتعرضوا بذلك للأجر، وتكسر هذه اللام على أصل لام الأمر، ويجوز تسكينها تخفيفا لأجل الحركة التي قبلها‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في رواية أبي داود ‏"‏ اشفعوا لتؤجروا ‏"‏ وهو يقوي أن اللام للتعليل، وجوز الكرماني أن تكون الفاء سببية واللام بالكسر وهي لام كي‏.‏

وقال جاز اجتماعهما لأنهما لأمر واحد، ويحتمل أن تكون جزائية جوابا للأمر، ويحتمل أن تكون زائدة على رأي أو عاطفة على اشفعوا واللام لام الأمر، أو على مقدر أي اشفعوا لتؤجروا فلتؤجر أو لفظ اشفعوا تؤجروا في تقدير إن تشفعوا تؤجروا والشرط يتضمن السببية فإذا أتى باللام وقع التصريح بذلك‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الفاء واللام زائدتان للتأكيد لأنه لو قيل اشفعوا تؤجروا صح أي إذا عرض المحتاج حاجته علي فاشفعوا له إلى فإنكم إن شفعتم حصل لكم الأجر سواء قبلت شفاعتكم أم لا، ويجري الله على لسان نبيه ما شاء أي من موجبات قضاء الحاجة أو عدمها، أي إن قضيتها أو لم أقضها فهو بتقدير الله تعالى وقضائه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في حديث عن ابن عباس سنده ضعيف رفعه ‏"‏ من سعى لأخيه المسلم في حاجة قضيت له أو لم تقض غفر له‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وليقض الله على لسان نبيه ما شاء‏)‏ كذا ثبت في هذه الرواية ‏"‏ وليقض ‏"‏ باللام، وكذا في رواية أبي أسامة التي بعدها للكشميهني فقط وللباقين ‏"‏ ويقضي ‏"‏ بغير لام‏.‏

وفي رواية مسلم من طريق علي بن، مسهر وحفص بن غياث ‏"‏ فليقض ‏"‏ أيضا قال‏.‏

القرطبي‏:‏ لا يصح أن تكون هذه اللام لام الأمر لأن الله لا يؤمر، ولا لام كي لأنه ثبت في الرواية ‏"‏ وليقض ‏"‏ بغير ياء مد ثم قال‏:‏ يحتمل أن تكون بمعنى الدعاء أي اللهم اقض، أو الأمر هنا بمعنى الخبر‏.‏

وفي حديث الحض على الخير بالفعل وبالتسبب إليه بكل وجه، والشفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة ضعيف، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى الرئيس ولا التمكن منه ليلج عليه أو يوضح له مراده ليعرف حاله على وجهه، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يحتجب‏.‏

قال عياض‏:‏ ولا يستثنى من الوجوه التي تستحب الشفاعة فيها إلا الحدود، وإلا فما لأحد فيه تجوز الشفاعة فيه ولا سيما ممن وقعت منه الهفوة أو كان من أهل الستر والعفاف، قال‏:‏ وأما المصرون على فسادهم المشتهرون في باطلهم فلا يشفع فيهم ليزجروا عن ذلك‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا

وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً كِفْلٌ نَصِيبٌ قَالَ أَبُو مُوسَى كِفْلَيْنِ أَجْرَيْنِ بِالْحَبَشِيَّةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله‏:‏ ‏(‏مقيتا‏)‏ وقد عقب المصنف الحديث المذكور قبله بهذه الترجمة إشارة إلى أن الأجر على الشفاعة ليس على العموم بل مخصوص بما تجوز فيه الشفاعة وهي الشفاعة الحسنة، وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه كما دلت عليه الآية، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال‏:‏ هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض، وحاصله أن من شفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر، وقيل‏:‏ الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمن والسيئة الدعاء عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كفل نصيب‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة‏.‏

وقال الحسن وقتادة‏:‏ الكفل الوزر والإثم‏.‏

وأراد المصنف أن الكفل يطلق ويراد به النصيب، ويطلق ويراد به الأجر، وأنه في آية النساء بمعنى الجزاء، وفي آية الحديد بمعنى الأجر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو موسى‏:‏ كفلين أجرين بالحبشية‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبي موسى الأشعري في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يؤتكم كفلين من رحمته‏)‏ قال‏:‏ ضعفين بالحبشية أجرين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى، وقد أشرت إلى ما فيه في الذي قبله‏.‏

ووقع فيه‏:‏ ‏"‏ إذا أتاه صاحب الحاجة ‏"‏ وعند الكشميهني ‏"‏ صاحب حاجة‏"‏‏.‏

*3*باب لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلَا مُتَفَحِّشاً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا‏)‏ كذا للأكثر، وللكشميهني ‏"‏ ولا متفحشا ‏"‏ بالتشديد كما في لفظ حديث عبد الله بن عمرو في الباب، ووقع في بعضها بلفظ ‏"‏ متفاحشا ‏"‏ والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل في القول والفعل، والصفة، يقال طويل فاحش الطول إذا أفرط في طوله، لكن استعماله في القول أكثر‏.‏

والمتفحش بالتشديد الذي يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه‏.‏

وأغرب الداودي فقال‏:‏ الفاحش الذي يقول الفحش، والمتفحش الذي يستعمل الفحش ليضحك الناس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ سَمِعْتُ مَسْرُوقاً قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ح و حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ فَذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلَا مُتَفَحِّشاً وَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ خُلُقاً

الشرح‏:‏

حديث عبد الله بن عمرو، أورده من طريق شعبة عن سليمان وهو الأعمش سمعت أبا وائل، ومن طريق جرير عن الأعمش عن شقيق بن سلمة وهو أبو وائل المذكور، وقد تقدم المتن بتمامه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في معناه، وفيه أيضا قوله‏:‏ ‏"‏ إن من خيركم أحسنكم أخلاقا ‏"‏ ووقع هنا للكشميهني ‏"‏ إن خيركم ‏"‏ وتبين بالرواية الأخرى أن ‏"‏ من ‏"‏ مرادة فيه‏.‏

ووقع للأكثر ‏"‏ أخيركم ‏"‏ بوزن أفضلكم ومعناه وهي على الأصل، والرواية الأخرى بمعناها، يقال فلان خير من فلان أي أفضل منه، وقد أخرج أحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أسامة رفعه ‏"‏ إن الله لا يحب كل فحاش متفحش‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَالَ مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قصة اليهود، وقد تقدم قريبا في ‏"‏ باب الرفق ‏"‏ وأن شرحه يأتي في الاستئذان، ووقع هنا ‏"‏ يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش ‏"‏ وقد حكى عياض عن بعض شيوخه أن عين العنف مثلثة والمشهور ضمها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا أَبُو يَحْيَى هُوَ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّاباً وَلَا فَحَّاشاً وَلَا لَعَّاناً كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ

الشرح‏:‏

حديث أنس‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏سبابا‏)‏ بالمهملة وموحدتين الأولى ثقيلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان يقول لأحدنا عند المعتبة‏)‏ بفتح الميم وسكون المهملة وكسر المثناة الفوقية - ويجوز فتحها - بعدها موحدة وهي مصدر عتب عليه يعتب عتبا وعتابا ومعتبة ومعاتبة، قال الخليل‏:‏ العتاب مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما له ترب جبينه‏)‏ قال الخطابي‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى خر لوجهه فأصاب التراب جبينه ويحتمل أن يكون دعاء له بالعبادة كأن يصلي فيترب جبينه، والأول أشبه لأن الجبين لا يصلي عليه، قال ثعلب‏:‏ الجبينان يكتنفان الجبهة ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وتله للجبين‏)‏ أي ألقاه على جبينه‏.‏

قلت‏:‏ وأيضا فالثاني بعيد جدا، لأن هذه الكلمة استعملها العرب قبل أن يعرفوا وضع الجبهة بالأرض في الصلاة‏.‏

وقال الداودي‏:‏ قوله ترب جبينه كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، وهي من التراب، أي سقط جبينه للأرض، وهو كقولهم رغم أنفه، ولكن لا يراد معنى قوله ترب جبينه، بل هو نظير ما تقدم في قوله تربت يمينك، أي أنها كلمة تجري على اللسان ولا يراد حقيقتها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشاً إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عمرو بن عيسى‏)‏ هو أبو عثمان الضبعي البصري، ثقة مستقيم الحديث قاله ابن حبان وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في كتاب الصلاة‏.‏

وشيخه محمد بن سواء هو أبو الخطاب السدوسي البصري، ثقة أيضا، له عند البخاري هذا الحديث وآخر في المناقب‏.‏

وشيخه روح بن القاسم مشهور كثير الحديث وقد تابعه عن محمد بن المنكدر سفيان بن عيينة كما سيأتي في ‏"‏ باب اغتياب أهل الفساد ‏"‏ وفي ‏"‏ باب المداراة ‏"‏ ومعمر عند مسلم وسياق روح أتم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عروة عن عائشة‏)‏ في رواية ابن عيينة ‏"‏ سمعت عروة أن عائشة أخبرته‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلا‏)‏ قال ابن بطال هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له الأحمق المطاع، ورجا النبي صلى الله عليه وسلم بإقباله عليه تألفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم، وكذا فسره به عياض ثم القرطبي والنووي جازمين بذلك، ونقله ابن التين عن الداودي لكن احتمالا لا جزما، وقد أخرجه عبد الغني بن سعيد في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ من طريق عبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنه بلغه عن عائشة ‏"‏ استأذن عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ بئس ابن العشيرة ‏"‏ الحديث، وأخرجه ابن بشكوال في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلا‏.‏

وأخرج عبد الغني أيضا من طريق أبي عامر الخراز عن أبي يزيد المدني عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته قال‏:‏ بئس أخو العشيرة ‏"‏ الحديث وهكذا وقع لنا في أواخر الجزء الأول من ‏"‏ فوائد أبي إسحاق الهاشمي ‏"‏ وأخرجه الخطيب، فيحمل على التعدد‏.‏

وقد حكى المنذر في مختصره القولين فقال‏:‏ هو عيينة، وقيل مخرمة‏.‏

وأما شيخنا ابن الملقن فاقتصر على أنه مخرمة وذكر أنه نقله من حاشية بخط الدمياطي فقصر، لكنه حكى بعد ذلك عن ابن التين أنه جوز أنه عيينة قال‏:‏ وصرح به ابن بطال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة‏)‏ في رواية معمر ‏"‏ بئس أخو القوم وابن القوم ‏"‏ وهي بالمعني، قال عياض المراد بالعشيرة الجماعة أو القبيلة‏.‏

وقال غيره العشيرة الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما جلس تطلق‏)‏ بفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي أبدى له طلاقة وجهه، يقال وجهه طلق وطليق أي مسترسل منبسط غير عبوس، ووقع في رواية ابن عامر ‏"‏ بش في وجهه ‏"‏ ولأحمد من وجه آخر عن عائشة ‏"‏ واستأذن آخر فقال نعم أخو العشيرة ‏"‏ فلما دخل لم يهش له ولم ينبسط كما فعل بالآخر، فسألته فذكر الحديث‏.‏

قال الخطابي جمع هذا الحديث علما وأدبا، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله، وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته‏.‏

قلت‏:‏ وظاهر كلامه أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي صلى الله عليه وسلم فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى‏.‏

ثم قال تبعا لعياض‏:‏ والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى‏.‏

وقال عياض‏:‏ لم يكن عيينة والله أعلم حينئذ أسلم‏.‏

فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرفه باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه فيكون ما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم من جملة علامات النبوة، وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألف له‏.‏

ثم ذكر نحو ما تقدم‏.‏

وهذا الحديث أصل في المداراة، وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق ‏"‏ ونحوهم والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏متى عهدتني فاحشا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فحاشا ‏"‏ بصيغة المبالغة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من تركه الناس‏)‏ في رواية عيينة ‏"‏ من تركه أو ودعه الناس ‏"‏ قال المازري‏:‏ ذكر بعض النحاة أن العرب أماتوا مصدر يدع وماضيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وقد نطق بالمصدر في قوله‏:‏ ‏"‏ لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات ‏"‏ وبماضيه في هذا الحديث‏.‏

وأجاب عياض بأن المراد بقولهم أماتوه أي تركوا استعماله إلا نادرا، قال‏:‏ ولفظ أماتوه يدل عليه ويؤيد ذلك أنه لم ينقل في الحديث إلا في هذين الحديثين مع شك الراوي في حديث الباب مع كثرة استعمال ترك ولم يقل أحد من النحاة إنه لا يجوز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اتقاء شره‏)‏ أي قبح كلامه، لأن المذكور كان من جفاة العرب‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ في هذا الحديث إشارة إلى أن عيينة المذكور ختم له بسوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتقى فحشه وشره، أخبر أن من يكون كذلك يكون شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة‏.‏

قلت‏:‏ ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال، فإن الحديث ورد بلفظ العموم فمن اتصف بالصفة المذكورة فهو الذي يتوجه عليه الوعيد، وشرط ذلك أن يموت على ذلك، ومن أين له أن عيينة مات على ذلك‏؟‏ واللفظ المذكور يحتمل لأن يقيد بتلك الحالة التي قيل فيها ذلك، وما المانع أن يكون تاب وأناب‏؟‏ وقد كان عيينة ارتد في زمن أبي بكر وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر، وله مع عمر قصة ذكرت في تفسير الأعراف، ويأتي شرحها في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى، وفيها ما يدل على جفائه‏.‏

والحديث الذي فيه أنه ‏"‏ أحمق مطاع ‏"‏ أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ ‏"‏ جاء عيينة بن حصن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال‏:‏ من هذه‏؟‏ قال‏:‏ أم المؤمنين‏:‏ قال ألا أنزل لك عن أجمل منها‏.‏

فغضبت عائشة وقالت‏:‏ من هذا‏؟‏ قال‏:‏ هذا أحمق ‏"‏ ووصله الطبراني من حديث جرير وزاد فيه‏:‏ اخرج فاستأذن، قال‏:‏ إنها يمين علي أن لا أستأذن على مضري‏.‏

وعلى تقدير أن يسلم له ذلك وللقاضي قبله في عيينة لا يسلم له ذلك في مخرمة بن نوفل وسيأتي في ‏"‏ باب المداراة ‏"‏ ما يدل على أن تفسير المبهم هنا بمخرمة هو الراجح‏.‏

*3*باب حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الْبُخْلِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَخِيهِ ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ فَرَجَعَ فَقَالَ رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل‏)‏ جمع في هذه الترجمة بين هذه الأمور الثلاثة لأن السخاء من جملة محاسن الأخلاق، بل هو من معظمها والبخل ضده، فأما الحسن فقال الراغب‏:‏ هو عبارة عن كل مرغوب فيه إما من جهة العقل وإما من جهة العرض وإما من جهة الحسن، وأكثر ما يقال في عرف العامة فيما يدرك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشرع فيما يدرك بالبصيرة، انتهى ملخصا‏.‏

وأما الخلق فهو بضم الخاء واللام ويجوز سكونها، قال الراغب‏:‏ الخلق والخلق يعني بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد كالشرب والشرب، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركـة بالبصيرة انتهى‏.‏

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي ‏"‏ أخرجه أحمد وصححه ابن حبان‏.‏

وفي حـديث علي الطويل في دعاء الافتتاح عند مسلم ‏"‏ واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ‏"‏ وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك، وأما السخاء فهو بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض، وعطفه على حسن الخلق من عطف الخاص على العام، وإنما أفرد للتنويه به‏.‏

وأما البخل فهو منع ما يطلب مما يقتنى، وشره ما كان طالبه مستحقا ولا سيما إن كان من غير مال المسئول‏.‏

وأشار بقوله‏:‏ ‏"‏ وما يكره من البخل ‏"‏ إلى أن بعض ما يجوز انطلاق اسم البخل عليه قد لا يكون مذموما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس‏)‏ تقدم موصولا في كتاب الإيمان، وتقدم شرحه في كتاب الصيام، وفيه بيان السبب في أكثرية جوده في رمضان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو ذر لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه الخ‏)‏ كذا للأكثر بتكرير قال‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ وكان أبو ذر الخ ‏"‏ وهي أولى، وهذا طرف من قصة إسلام أبي ذر، وقد تقدمت موصولة مطولة في المبعث النبوي مشروحة والغرض منه هنا قوله‏:‏ ‏"‏ ويأمر بمكارم الأخـلاق ‏"‏ والمكارم جمع مكرمة بضم الراء وهي من الكرم، قال الراغب‏:‏ وهو اسم الأخلاق، وكذلك الأفعال المحمودة، قال ولا يقال للرجل كريم حتى يظهر ذلك منه، ولما كان أكرم الأفعال ما يقصد به أشرف الوجوه، وأشرفها ما يقصد به وجه الله تعالى، وإنما يحصل ذلك من المتقي قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏)‏ وكل فائق في بابه يقال له كريم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْراً أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ

الشرح‏:‏

حديث أنس قال‏:‏ ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس ‏"‏ أي أحسنهم خلقا وخلقا ‏"‏ وأجود الناس ‏"‏ أي أكثرهم بذلا لما يقدر عليه ‏"‏ وأشجع الناس ‏"‏ أي أكثرهم إقداما مع عدم الفرار، وقد تقدم شرح الحديث المذكور في كتاب الهبة، واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاث من جوامع الكلم لأنها أمهات الأخلاق، فإن‏:‏ في كل إنسان ثلاث قوى‏:‏ أحدها‏:‏ الغضبية وكمالها الشجاعة، ثانيها‏:‏ الشهوانية وكمالها الجود، ثالثها‏:‏ العقلية وكمالها النطق بالحكمة‏.‏

وقد أشار أنس إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏"‏ أحسن الناس ‏"‏ لأن الحسن يشمل القول والفعل، ويحتمل أن يكون المراد بأحسن الناس حسن الخلقة وهو تابع لاعتدال المزاج الذي يتبع صفاء النفس الذي منه جودة القريحة التي تنشأ عنها الحكمة قاله الكرماني، وقوله‏:‏ ‏"‏ فزع أهل المدينة ‏"‏ أي سمعوا صوتا في الليل فخافوا أن يهجم عليهم عدو، وقوله‏:‏ ‏"‏ فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، قد سبق الناس إلى الصوت ‏"‏ أي أنه سبق فاستكشف الخبر فلم يجد ما يخاف منه فرجع يسكنهم‏.‏

وقـوله‏:‏ ‏"‏ لم تراعوا ‏"‏ هي كلمـة تقال عند تسكين الروع تأنيسا، وإظهارا للرفق بالمخاطب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا

الشرح‏:‏

حديث جابر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن المنكدر‏)‏ في رواية الإسماعيلي من طريق أبي الوليد الطيالسي ومن طريق عبد الله وهو ابن المبارك كلاهما عن سفيان ‏"‏ سمعت محمد بن المنكدر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا‏)‏ كذا للجميع، وكذا في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق ابن عيينة سمعت ابن المنكدر، ووقع في رواية الإسماعيلي من الطريقين المذكورين، وكذا عند مسلم من طريق سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر بلفظ ‏"‏ ما سئل شيئا قط فقال لا ‏"‏ قال الكرماني‏:‏ معناه ما طلب منه شيء من أمر الدنيا فمنعه، قال الفرزدق‏:‏ ‏"‏ ما قال لا قط إلا في تشهده ‏"‏ قلت‏:‏ وليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزما، بل المراد أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت‏.‏

وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية أخرجه ابن سعد ولفظه ‏"‏ إذا سئل فأراد أن يفعل قال نعم، وإذا لم يرد أن يفعل سكت ‏"‏ وهو قريب من حديث أبي هريرة الماضي في الأطعمة ‏"‏ ما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه ‏"‏ وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام‏:‏ معناه لم يقل ‏"‏ لا ‏"‏ منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏قلت لا أجد ما أحملكم عليه‏)‏ ولا يخفى الفرق بين قول لا أجد ما أحملكم وبين لا أجملكم‏.‏

قلت‏:‏ وهو نظير ما تقدم في حديث أبي موسى الأشعري لما سأل الأشعريون الحملان فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما عندي ما أحملكم ‏"‏ لكن يشكل على ما تقدم أن في حديث الأشعري المذكور أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم فقال‏:‏ ‏"‏ والله لا أحملكم ‏"‏ فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر بما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة أو من حال السائل، كأن يكون لم يعرف العادة، فلو اقتصر في جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر في الجمع بين قوله‏:‏ ‏"‏ لا أجد ما أحملكم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ والله لا أحملكم ‏"‏ أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودا عنده، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب إذ لا اضطرار حينئذ إلى ذلك، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الأيمان والنذور‏.‏

وفهم بعضهم من لازم عدم قول ‏"‏ لا ‏"‏ إثبات ‏"‏ نعم ‏"‏ ورتب عليه أنه يلزم منه تحريم البخل، لأن من القواعد أنه صلى الله عليه وسلم إذا واظب على شيء كان ذلك علامة وجوبه، والترجمة تقتضي أن البخل مكروه‏.‏

وأجيب بأنه إذا تم هذا البحث حملت الكراهة على التحريم، لكنه لا يتم لأن الذي يحرم من البخل ما يمنع الواجب سلمنا أنه يدل على الوجوب لكن على من هو في مقام النبوة، إذ مقابله نقص منزه عنه الأنبياء فيختص الوجوب بالنبي صلى الله عليه وسلم، والترجمة تتضمن أن من البخل ما يكره، ومقابله أن منه ما يحرم كما أن فيه ما يباح بل ويستحب بل ويجب، فلذلك اقتصر المصنف على قوله يكره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ كُنَّا جُلُوساً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُحَدِّثُنَا إِذْ قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشاً وَلَا مُتَفَحِّشاً وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقاً

الشرح‏:‏

حديث مسروق ‏"‏ كنا جلوسا عند عبد الله بن عمرو بن العاص ‏"‏ ورجاله إلى الصحابة كوفيون، وقد دخلها كما تقدم صريحا في هذا الحديث في ‏"‏ باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يكن فاحشا‏)‏ تقدم شرحه في الباب المذكور وهو الحديث السادس عشر منه، وقوله فيه‏:‏ ‏"‏ إن خياركم أحاسنكم أخلاقا ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أحسنكم ‏"‏ ووقع في الرواية الماضية ‏"‏ إن من خياركم ‏"‏ وهي مرادة هنا‏.‏

وقد أخرج أبو يعلى من حديث أنس رفعه ‏"‏ أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ‏"‏ وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ إن من أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا ‏"‏ ولأحمد بسند رجاله ثقات من حديث جابر بن سمرة نحوه بلفظ ‏"‏ أحسن الناس إسلاما ‏"‏ وللترمذي من حديث جابر رفعه ‏"‏ إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا ‏"‏ وأخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولأحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي ثعلبة نحوه وقال‏:‏ ‏"‏ أحاسنكم أخلاقا ‏"‏ وسياقه أتم، وللبخاري في الأدب المفرد وابن حبان والحاكم والطبراني من حديث أسامة بن شريك ‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله من أحب عباد الله إلى الله‏؟‏ قال‏:‏ أحسنهم خلقا ‏"‏ وفي رواية عنه ‏"‏ ما خير ما أعطي الإنسان‏؟‏ قال‏:‏ خلق حسن ‏"‏ ومن الأحاديث الصحيحة في حسن الخلق حديث النواس بن سمعان رفعه ‏"‏ البر حسن الخلق ‏"‏ أخرجه مسلم والبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد‏"‏، وحديث أبي الدرداء رفعه ‏"‏ ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق ‏"‏ أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وأبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان وزاد الترمذي فيه وهو عند البزار ‏"‏ وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة ‏"‏ وأخرجه أبو داود وابن حبان أيضا والحاكم من حديث عائشة نحوه، وأخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ والحاكم من حديث أبي هريرة، وأخرجه الطبراني من حـديث أنس نحوه، وأحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو‏.‏

وأخرج الترمذي وابن حبان وصححاه وهو عند البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث أبي هريرة ‏"‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال‏:‏ تقوى الله وحسن الخلق ‏"‏ وللبزار بسند حسن من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ‏"‏ والأحاديث في ذلك كثيرة‏.‏

وحكى ابن بطال تبعا للطبري خلافا‏:‏ هل حسن الخلق غريزة، أو مكتسب‏؟‏ وتمسك من قال بأنه غريزة بحـديث ابن مسعود ‏"‏ إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم ‏"‏ الحديث وهو عند البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في كتاب القدر‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودا وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض صاحبه حني يقوى‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنسائي والبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن فيك لخصلتين يحبهما الله‏:‏ الحلم، والأناة‏.‏

قال‏:‏ يا رسول الله، قديما كانا في أو حديثا‏؟‏ قال‏:‏ قديما‏.‏

قال‏:‏ الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما ‏"‏ فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ فَقَالَ الْقَوْمُ هِيَ الشَّمْلَةُ فَقَالَ سَهْلٌ هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْسُوكَ هَذِهِ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا فَقَالَ نَعَمْ فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَامَهُ أَصْحَابُهُ قَالُوا مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مُحْتَاجاً إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ شَيْئاً فَيَمْنَعَهُ فَقَالَ رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا

الشرح‏:‏

حديث سهل بن سعد في قصة البردة التي سأل الصحابي لتكون كفنه، والغرض منه قولهم للذي طلبها‏:‏ ‏"‏ سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه ‏"‏ وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الجنائز، وفي قولهم‏:‏ ‏"‏ سألته إياها ‏"‏ استعمال ثاني الضميرين منفصلا وهو المتعين هنا فرارا من الاستثقال، إذ لو قاله متصلا فإنه يصير هكذا سألتموها، قال ابن مالك‏:‏ والأصل أن لا يستعمل المنفصل إلا عند تعذر المتصل؛ لأن الاتصال أخصر وأبين، لكن إذا اختلف الضميران وتقاربا فالأحسن الانفصال نحو هذا، فإن اختلفا في الرتبة جاز الاتصال والانفصال مثل أعطيتكه وأعطيتك إياه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ يتقارب الزمان ‏"‏ وسيأتي شرحه في كتاب الفتن وقوله فيه‏:‏ ‏"‏ وينقص العمل ‏"‏ وقع في رواية الكشميهني ‏"‏ وينقص العلم ‏"‏ وهو المعروف في هذا الحديث وللآخر وجه‏.‏

وقوله فيه‏:‏ ‏"‏ ويلقى الشح ‏"‏ وهو مقصود الباب وهو أخص من البخل فإنه بخل مع حرص‏.‏

واختلف في ضبط ‏"‏ يلقى ‏"‏ فالأكثر على أنه بسكون اللام أي يوضع في القلوب فيكثر، وهو على هذا بالرفع، وقيل‏:‏ بفتح اللام وتشديد القاف أي يعطي القلوب الشح، وهو على هذا بالنصب حكاه صاحب ‏"‏ المطالع ‏"‏ وقال الحميدي‏:‏ لم تضبط الرواة هذا الحـرف، ويحتمل أن يكـون ‏"‏ تلقى ‏"‏ بالتشديد أي يتلقى ويتواصى به ويدعوه إليه من قوله‏:‏ ‏"‏ وما يلقاها إلا الصابرون ‏"‏ أي ما يعلمها وينبه عليها، قال ولو قيل‏:‏ يلقى مخففة لكان بعيدا لأنه لو ألقي لترك وكان مدحا والحديث مساق للذم، ولو كان بالفاء بمعنى يوجد لم يستقم لأنه لم يزل موجودا ا هـ‏.‏

وقد ذكرت توجيه القاف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ سَمِعَ سَلَّامَ بْنَ مِسْكِينٍ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتاً يَقُولُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلَا لِمَ صَنَعْتَ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ

الشرح‏:‏

حديث أنس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين‏)‏ تقدم نظيره في الوليمة من وجه آخر عن أنس، ومثله عند أحمد وغيره عن ثابت عن أنس، وكذا هو في معظم الروايات، ووقع عند مسلم من طريق إسحاق بن طلحة عن أنس ‏"‏ والله لقد خدمته تسع سنين ‏"‏ ولا مغايرة بينهما لأن ابتداء خدمته له كان بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وبعد تزويج أمه أم سليم بأبي طلحة، فقد مضى في الوصايا من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ إن أنسا غلام كيس فليخدمك، قال فخدمته في السفر والحضر ‏"‏ وأشار بالسفر إلى ما وقع في المغازي وغيرها من طريق عمرو بن أبي عمرو عن أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أبي طلحة لما أراد الخروج إلى خيبر من يخدمه فأحضر له أنسا ‏"‏ فأشكل هذا على الحديث الأول لأن بين قدومه المدينة وبين خروجه إلى خيبر ست سنين وأشهرا‏.‏

وأجيب بأنه طلب من أبي طلحة من يكون أسن من أنس وأقوى على الخدمة في السفر فعرف أبو طلحة من أنس القوة على ذلك فأحضره، فلهذا قال أنس في هذه الرواية ‏"‏ خدمته في الحضر والسفر ‏"‏ وإنما تزوجت أم سليم بأبي طلحة بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أشهر؛ لأنها بادرت إلى الإسلام ووالد أنس حي فعرف بذلك فلم يسلم وخرج في حاجة له فقتله عدو له، وكان أبو طلحة قد تأخر إسلامه فاتفق أنه خطبها فاشترطت عليه أن يسلم فأسلم أخرجه ابن سعد بسند حسن، فعلى هذا تكون مدة خدمة أنس تسع سنين وأشهرا، فألغى الكسر مرة وجبره أخرى‏.‏

وقوله في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏ والله ما قال لي أف قط ‏"‏ قال الراغب‏:‏ أصل الأف كل مستقذر من وسخ كقلامة الظفر وما يجري مجراها، ويقال ذلك لكل مستخف به، ويقال أيضا عند تكره الشيء وعند التضجر من الشيء، واستعملوا منها الفعل كأففت بفلان، وفي أف عدة لغات‏:‏ الحركات الثلاث بغير تنوين وبالتنوين، ووقع في رواية مسلم هنا ‏"‏ أفا ‏"‏ بالنصب والتنوين وهي موافقة لبعض القراءات الشاذة كما سيأتي، وهذا كله مع ضم الهمزة والتشديد، وعلى ذلك اقتصر بعض الشراح، وذكر أبو الحسن الرماني فيها لغات كثيرة فبلغها تسعا وثلاثين ونقلها ابن عطية وزاد واحدة أكملها أربعين، وقد سردها أبو حيان في ‏"‏ البحر ‏"‏ واعتمد على ضبط القلم‏.‏

ولخص ضبطها صاحبه الشهاب السمين ولخصته منه، وهي الستة المقدمة، وبالتخفيف كذلك ستة أخرى، وبالسكون مشددا ومخففا، وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشددا ومخففا، وأفي بالإمالة وبين بين وبلا إمالة الثلاثة بلا تنوين، وأفو بضم ثم سكون وأفي بكسر ثم سكون‏.‏

فذلك ثنتان وعشرون، وهذا كله مع ضم الهمزة ويجوز كسرها وفتحها، فأما بكسرها ففي إحدى عشرة‏:‏ كسر الفاء وضمها ومشددا مع التنوين وعدمه أربعة ومخففا بالحركات الثلاث مع التنوين وعدمه ستة، وأفي بالإمالة والتشديد، وأفا بفتح الهمزة ففي ست بفتح الفاء وكسرها مع التنوين وعدمه أربعة وبالسكون وبألف مع التشديد، والتي زادها ابن عطية أفاه بضم أوله وزيادة ألف وهاء ساكنة، وقرئ من هذه اللغات ست كلها بضم الهمزة، فأكثر السبعة بكسر الفاء مشددا بغير تنوين، ونافع وحفص كذلك لكن بالتنوين، وابن كثير وابن عامر بالفتح والتشديد بلا تنوين، وقرأ أبو السماك كذلك لكن بضم الفاء، وزيد بن علي بالنصب والتنوين، وعن ابن عباس بسكون الفاء‏.‏

قلت‏:‏ وبقي من الممكن في ذلك أفي كما مضى لكن بفتح الفاء وسكون الياء، وأفيه بزيادة هاء، وإذا ضممت هاتين إلى التي زادها ابن عطية وأضفتها إلى ما بدئ به صارت العدة خمسا وعشرين كلها بضم الهمزة، فإذا استعملت القياس في اللغة كان الذي بفتح الهمزة كذلك وبكسرها كذلك فتكمل خمسا وسبعين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا لم صنعت ولا ألا صنعت‏)‏ بفتح الهمزة والتشديد بمعنى هلا‏.‏

وفي رواية مسلم من هذا الوجه ‏"‏ لشيء مما يصنعه الخادم ‏"‏ وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة ‏"‏ ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، ولشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا ‏"‏ وفي رواية عبد العزيز بن صهيب ‏"‏ ما قال لشيء صنعته لم صنعت هذا كذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا كذا ‏"‏ ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات، لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏